كباسيل | فصل

كتاب «كباسيل» للصحفيّ عمر نزّال

 

صدر كتاب «كباسيل» للصحفيّ عمر نزّال عن «دار طباق للنشر والتوزيع» (2022)، ضمن مشروع «كلمات حرّة»، الّذي تتبنّاه الدار من أجل توثيق أدب الحرّيّة. تأتي أهمّيّة هذا الكتاب في كونه دراسة ميدانيّة تسلّط الضوء على آليّات الاتّصال والتواصل بين الأسرى في سجون الاحتلال من جهة والعالم الخارجيّ من جهة أخرى، مستعرضًا الأدوات الّتي طوّرها الأسرى في سبيل مواجهة الجدران والعزل والاعتقال من خلال 24 منفذ تواصل.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بالتعاون مع الكاتب والناشر. 

 


 

منافذ التواصل البينيّ

الإنسان كائن اجتماعيّ لديه ميل وحاجة دائمة للتواصل والتفاعل مع الآخرين، وهي حاجة تزداد أهمّيّة في ظروف العزل الّتي يعيشها كلّ الأسرى، وظروف العزل المشدّد الّتي يعيشها بعضهم، خاصّة وأنّ سياسات العزل واحدة من ثوابت ونهج إدارة السجون الّتي تضع الأسرى في سلسلة حلقات غير متّصلة، كلّ منها أضيق من الأخرى، إذ أنّ "التواصل والاتّصال مسألة في غاية الأهمّيّة، عندما نقول إنّ الأسير بحاجة لتأهيل، فإنّ أحد أهمّ الأسباب الّتي تؤثّر على شخصيّته هي قلّة الاتّصال، وثمّة فرق في سلوك الأسرى الّذين عاشوا في زنازين وغرف صغيرة، عن غيرهم من الّذين عاشوا في غرف واسعة، فكلّما اتّسعت بيئة الاحتكاك كلّما كانت الشخصيّة أكثر اتّزانًا، والأسرى ذوو العلاقات الاجتماعيّة الواسعة كانت نفسيّاتهم مستقرّة، على عكس الأسرى المنزوين والّذين كانت علاقاتهم مقتصرة على عدد محدود من الأسرى، فقد نتج عن ذلك خلل في شخصيّاتهم، أثناء الاعتقال أو بعد الخروج من السجن، لذلك كانت الفصائل تدعو لتوسيع العلاقات والتفاعلات الاجتماعيّة وتنويعها"[1].

فإلى جانب كون الشعب الفلسطينيّ برمّته أسيرًا في المعزل الأكبر في كلّ الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة حيث تتحكّم سلطات الاحتلال في حركته وتنقّلاته داخلها وخارجها، فإنّ الاعتقال يرمي بالأسير في حلقة أضيق هي السجن، والسجن ليس واحدًا بل ثمّة عشرون سجنًا تتوزّع جغرافيًّا على مجمل الأراضي المحتلّة وتُقسّم إلى سجون الشمال وسجون الوسط وسجون الجنوب، وثمّة سجون للموقوفين وأخرى للمحكومين وثالثة تستوعب الحالتين، وسجون لذوي الأحكام العالية وأخرى لذوي الأحكام الأقلّ وثالثة تستوعب الحالتين، وسجون تضمّ أسرى القدس والأراضي المحتلّة عام 1948، وأخرى لا يتمّ وضعهم فيها أبدًا، ناهيك عن سجن مخصّص للأسيرات. كلّ سجن من هذه السجون مكوّن من عدّة أقسام، وفي كلّ قسم من الأقسام عدّة غرف متفاوتة السعة، إضافة إلى زنازين عزل انفراديّ.

ثمّة فرق في سلوك الأسرى الّذين عاشوا في زنازين وغرف صغيرة، عن غيرهم من الّذين عاشوا في غرف واسعة، فكلّما اتّسعت بيئة الاحتكاك كلّما كانت الشخصيّة أكثر اتّزانًا...

التواصل والترابط بين كلّ حلقة من الحلقات المذكورة يزداد تعقيدًا كلّما اتّسعت الحلقة، فالتواصل داخل الغرف الّتي تتفاوت سعتها ولكن بما لا يزيد عن عشرة متاح وممكن طوال الوقت تقريبًا، أمّا التواصل المباشر بين الأسرى من غرفة لأخرى فهو محدود في أوقات الفورة اليوميّة الّتي تختلف مدّتها أيضًا من سجن لآخر، ولكنّه في كلّ الأحوال غير ممكن في ساعات المساء والليل، في ما التواصل المباشر بين الأسرى في قسم محدّد وزملائهم في باقي الأقسام أكثر صعوبة، فهو رهن بصدفة الالتقاء في غرفة زيارة الأهل أو غرفة لقاء المحامين أو أماكن انتظار المحاكم، وهو مسموح ولكن بقيود أيضًا لممثّل السجن أو ممثّلي الفصائل الّتي يعيش عناصرها في أكثر من قسم. أمّا التواصل المباشر بين سجن وآخر فلا يمكن أن يتمّ إلّا عند انتقال الأسير من سجن لآخر، وهي عمليّة محكومة بأنظمة وإجراءات إدارة السجون، وببعض التفاهمات مع قيادة الحركة الأسيرة الّتي قد تؤثّر أحيانًا، ولكنّها لا تستطيع أن تفرض أو تمنع التنقّل خاصّة عندما يكون النقل عقابًا، وهذا التنقّل أسهل بين سجون ذات المنطقة الجغرافيّة منه بين سجون الشمال وسجون الجنوب مثلًا.

إضافة إلى الحاجة الإنسانيّة للتواصل بين الأسرى، فإنّ هناك دواعي وضرورات إضافيّة تتعلّق بتنظيم صفوف الأسرى وتسهيل ظروفهم المعيشيّة، بما في ذلك مواجهة إدارة السجون وإجراءاتها بحقّهم، ومواجهة سياسات الاحتلال عمومًا باعتبار الحركة الأسيرة مكوّنًا مهمًّا من مكوّنات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وتقف في الصفوف الأولى للمواجهة.

من هنا، فإنّ الأسرى يسعون لكسر مرتكزات سياسة إدارة السجون بالفصل والعزل البينيّ، ومع العالم الخارجيّ، ويبحثون عن كلّ منافذ التواصل في ما بينهم، ويبتدعون طرقًا وأساليب لتحقيقه، سواءً ما يتعلّق منه بتلبية الاحتياجات الإنسانيّة والاجتماعيّة، أو التنظيميّة والوطنيّة، وتتغيّر قيمة وأهمّيّة هذا المنفذ أو ذاك تبعًا لعوامل عديدة، أهّمها طبيعة وتركيبة السجن من حيث شكل بنائه وتوزيع أقسامه، وثانيها إجراءات إدارة السجون الّتي تختلف من وقت لآخر ارتباطًا بالواقع السياسيّ والأمنيّ، وثالثها التطوّرات الحياتيّة الّتي تتأثّر بها السجون بشكل أو بآخر، ومنها التطوّرات التكنولوجيّة في قطاع الاتّصالات تحديدًا. وما سنعرضه من منافذ وسبل ولوجها تتغيّر أهمّيّته وتتبدّل تبعًا لذلك، ويتغيّر معها أولويّات وطرائق الأسرى في الوصول إليها.

 

 تواصل حدوده جدران السجن

التواصل المباشر بالكلام، يجري في الأحوال العاديّة وحينما يتاح الالتقاء وجهًا لوجه، يسهل حدوثه في الأوقات العاديّة بين الأسرى في ذات الغرفة، من خلال التفاعل والأحاديث الجماعيّة حينًا، والأحاديث الفرديّة حينًا آخر، يتبادل فيه الأسرى همومهم وشجونهم، ومعلوماتهم وآرائهم، لا يتركون شاردة أو واردة، أحاديث ودّيّة ودافئة، لكنّها لا تخلو من المشاحنات والمناكفات أحيانًا. يبدو الأسرى في ذات الغرفة كأسرة واحدة أو أصدقاء مقرّبين، فالوقت الّذي يجمعهم سويًّا خلال أسبوع، يعادل ما يمكن أن تقضيه خارج السجن مع أيّ صديق خلال عام. أمّا الأصدقاء منذ ما قبل السجن أو مّمن حدث والتقوا في فترات سجن سابقة، فإنّ علاقاتهم وأحاديثهم أكثر دفئًا، تطال الخصوصيّات والشؤون الأسريّة والشجون العاطفيّة.

لا يقتصر التواصل على الحديث بن الأسرى أنفسهم، بل يطال أسرهم وعائلاتهم، فكلّ أسير يحتفظ بالعادة بصورة أو مجموعة صور لأسرته، يعلّق بعضها على سريره كي يبقى على تواصل بصريّ معهم، يحدّثهم غالبًا في عقله وقلبه، وأحيانًا بصوته المسموع، ويمتدّ ذلك لباقي الأسرى في ذات الغرفة، خاصّة عندما تكون الصور لأطفال، فتتسع الأبوّة والحنان لكلّ من يعيش في ذات الغرفة، ويصبح الطفل للجميع يتحدّثون معه ويدلّلونه كما لو كان موجودًا بينهم.

لا يقتصر التواصل على الحديث بن الأسرى أنفسهم، بل يطال أسرهم وعائلاتهم، فكلّ أسير يحتفظ بالعادة بصورة أو مجموعة صور لأسرته، يعلّق بعضها على سريره كي يبقى على تواصل بصريّ معهم...

أمّا التواصل بين الأسرى في ذات القسم فهو أكثر محدوديّة، حيث ينحصر ذلك أثناء الفورة الّتي يختلف وقتها ومدّتها بين سجن لآخر، لكنّها تشكّل متنفّسًا مهمًّا للأسرى للتواصل مع بعضهم البعض وتبادل أطراف الحديث وتناقل الأخبار والآراء، إذ يستطيع الأسير"بشكل فردي التواصل مع كلّ الأسرى في القسم خلال الفورة الّتي كانت أشبه بتفاعل جماعيّ، يلتقي الأسير بأصدقائه وأبناء بلده، ويتفاعل حتّى مع الأسرى من التنظيمات الأخرى"[2]. يزداد شغف الأسرى لوقت الفورة عند عودة أحدهم من الزيارة العائليّة أو المحكمة أو مقابلة محام، حيث يكون لديه من المعلومات ما يوصله بشغف لأصدقائه أو مسؤوليه، ولا يملّ الأسرى من تكرار قصصهم مرّات ومرّات، لكلّ صديق أو مجموعة على حدة، يضيف إليها ما يعتقد أنّه يهمّ هذا الأسير، وينتقص منها ما يعتقد أنّه يزعج ذاك، يتحدّث معهم بصوت عال عندما يتعلّق الأمر بما هو عامّ، ويخفض صوته إذا كان الشأن خاصًّا.

 

’الفورة‘... استراق المساحات

في أوقات الفورة، يتسنّى التواصل الجماعيّ عندما يستدعي الأمر، إذ يمكن فتح بيت عزاء إذا ما توفّي قريب لأحد الأسرى، يؤمّه كافّة أسرى القسم معزّين ومساندين الأسير الفاقد قريبًا أو عزيزًا، أو يمكن تقديم مواساة لأسير عائد من المحكمة بحكم لمدّة كبيرة، أو أسير إداريّ تمّ تجديد أمر اعتقاله لفترة أخرى، أو يمكن تقديم التهاني لأسير في مناسبة فرح ما، كأن يُبَلّغ بولادة مولود له أو زواج قريب، أو السلام على أسير سيفرج عنه في ذات اليوم أو في اليوم التالي. في مثل هذه المناسبات تمحى الفوارق والحواجز بين الأسرى إن كانت موجودة، فلا معنى هنا للانتماء التنظيميّ أو لمكان السكن أو السنّ. كما تستغلّ أوقات الفورة للتواصل الجماعيّ في المناسبات الوطنيّة والدينيّة، حيث تؤدّى الصلاة، وخاصّة صلاة وخطبة الجمعة بشكل جماعيّ، وكذا صلوات وتكبيرات وطقوس الأعياد، وخلالها أيضًا تنظّم فعاليّات المناسبات الوطنيّة العامّة وانطلاقات الفصائل وتبادل التهاني الثوريّة. "التفاعل بين الأسرى دائم، ومهما كانت التباينات في الخلفيّات السياسيّة أو الاجتماعيّة أو غيره، فالكلّ يحتاج لهذا التفاعل ويسعى إليه، وهو واحد من تعبيرات البحث عن حياة اجتماعيّة عاديّة كما في الخارج، وهو مهمّ أيضًا لقضاء احتياجات تنظيميّة واعتقاليّة عامّة"[3]. مثل هذا التواصل يعزّز التعاضد والإسناد، ومشاعر وحدة الحال وقوّة الجماعة، ويحدّ من الشعور بالعزلة والانكفاء على الذات، لذا نجد أنّ الاهتمام به وبطقوسه عال.

 في ما التواصل بين الأسرى في الأقسام المختلفة كان أكثر صعوبة ومحدوديّة، خاصّة في البدايات حيث "نظريًّا نحن نعيش في سجن واحد ولكن على الصعيد العمليّ نحن نعيش في ستّة سجون حيث كلّ قسم يشكّل موضوعيًّا سجنًا مستقلًّا عن بقيّة الأقسام، الأمر الّذي من شأنه ألّا يسمح للأخ بمشاهدة أخيه في القسم الآخر والأب لا يشاهد ابنه... أمّا الاختلاط بين قاطني القسم الواحد فيكون فقط خلال ساعتي النزهة المزعومة"[4].

الصدف المرتّبة، فهي بحاجة لتدابير خاصّة، كأن يجري التنسيق بين الأسير وذويه على أن يسجّلوا ويأتوا سويًّا مع ذوي الأسير الآخر من القسم الآخر الّذي يريد الالتقاء معه في غرفة الزيارة...

 

في ’البوسطة‘

مع مرور الوقت وانتزاع الإنجازات فقد تكسّرت بعض الحواجز والممنوعات، رغم أنّ التواصل بين أسرى قسم وآخر لا زال يخضع لضوابط وقيود إدارة السجن، ويرتهن لعامل الصدفة غالبًا، أو الصدف المرتّبة مسبقًا في بعض الأحيان، فهو لا يجري إلّا إذا حصل والتقى الأسرى من أقسام مختلفة أثناء زياراتهم لأهاليهم، حيث يقضون بعض الوقت معًا في انتظار بدء الزيارة، أو خلال الخروج للمحاكم حيث يجري تجميع كافة الأسرى المحدّدة جلسات محاكمهم في ذات اليوم في غرفة خاصّة داخل السجن، ثمّ ينقلون معًا في ما يسمّى ’البوسطة‘، ويوضعون بعدها في غرف انتظار المحاكم، ويتكرّر هذا في طريق العودة إلى السجن. في هذه الحالة يجري التعارف وبناء علاقات جديدة، قد تنتهي مع انتهاء اليوم، وقد تجمعهم الظروف سويًّا لاحقًا في السجن أو خارجه، وهنا يكون فحوى الأحاديث غالبًا حول واقع وظروف كلّ قسم وفوارقه عن الأقسام الأخرى، أو عن مجريات جلسات المحاكم والاتّهامات الموجّهة من نيابة الاحتلال ومرافعات المحامين وتوقّعات مدد الأحكام الّتي ستصدر بحقّهم، أمّا أحاديث غرف زيارات الأهالي، فتتعلّق عادة بشؤون الأهل ومشاقّ وصولهم إلى الزيارة والإجراءات الّتي مرّوا بها، وما أحضروه للأسير من ملابس أو صور أو أموال للشراء من الكانتين.

أمّا الصدف المرتّبة، فهي بحاجة لتدابير خاصّة، كأن يجري التنسيق بين الأسير وذويه على أن يسجّلوا ويأتوا سويًّا مع ذوي الأسير الآخر من القسم الآخر الّذي يريد الالتقاء معه في غرفة الزيارة، وهكذا يكسبان بعض الوقت سويًّا للحديث في شأن اعتقاليّ أو شأن اجتماعيّ، أو لمجرّد إطفاء اشتياق.  

لكن على الصعيد الاعتقاليّ العامّ، فإنّ ثمّة منفذًا آخر، إذ يوجد داخل كلّ سجن ممثّل له أو ناطق باسم الأسرى، معترف به من قبل إدارة السجون، هو صلة الوصل بين عموم الأسرى والإدارة، يسمح له في غالبيّة أوقات النهار بالتجوّل بين الأقسام وبين الغرف، يلتقي الأسرى بممثّلي الأقسام والفصائل، يتناقشون معهم في ما يهمّ شؤون السجن، وتنقل أحيانًا رسائل شفويّة اجتماعيّة من أسير في قسم معيّن إلى أسير آخر في قسم ثان. ومثل ذلك ثمّة ممثّل لكلّ فصيل رئيسيّ له وجود وعناصر داخل السجن المحدد («فتح»، «حماس»، «الجبهة الشعبيّة»، «الجبهة الديمقراطيّة»، «الجهاد الإسلاميّ»)، يحقّ لهذا الممثّل التنقّل بين الأقسام، وبخاصّة الأقسام الّتي يوجد بها عناصر من تنظيمه، يناقش وينقل المواقف الخاصّة بتنظيميه، وينقل رسائل اجتماعيّة أكثر خصوصيّة من منطلق الانفتاح الاجتماعيّ ذي الهامش الأكبر بين عناصر كلّ تنظيم.

 


إحالات

[1] قدوره فارس، مقابلة خاصّة، رام الله، تشرين الثاني (نوفمبر) 2019.

[2] وليد الهودلي، مقابلة خاصّة، رام الله، تشرين الثاني (نوفمبر) 2019.

[3] حسن فطافطة، مقابلة خاصّة، سجن عوفر، أيار (مايو) 2016.

[4] جبريل الرجوب، الزنزانة رقم 704، ص. 101.

 


 

عمر نزّال

 

 

 

كاتب وصحفيّ وأسير محرّر، يعمل حاليًّا مديرًا لمكتب «كلاكيت الإعلاميّ».